
كتبت- كريمة حسين
ببراعة وإصرار، يعيد المصمم مارك ديفيس تحويل قطع الباكيلايت- Bakelit- القديمة المصنوعة من البلاستيك الملون إلى مجوهرات فريدة وجذابة.
من دومينو قديم ومصابيح وكريات بلياردو، يحوّل ديفيس هذه القطع إلى أساور وخواتم وأقراط مذهلة، مزينة بالأحجار الكريمة والماس. ويقول:
“نشتري القطع التي لا يريدها أحد ونحوّلها إلى مجوهرات فاخرة، كل قطعة مصنوعة يدويًا وفريدة من نوعها. لا شيء يضيع، وكل قطعة تحمل روحها الخاصة”.

رحلة الابتكار والاستدامة
أسس مارك ديفيس – نورث كارولينا- شركته عام 1999، ويقوم هو وفريقه بصنع جميع القطع في ورشته بجرين بوينت، بروكلين. واشتهر بتحويل “النفايات إلى كنوز”، وهي عملية تعرف باسم Upcycling أو إعادة التدوير الإبداعي. هذا التوجه أصبح شائعًا مؤخرًا، خاصة بين المستهلكين والعملاء المهتمين بالعلامات التجارية الصديقة للبيئة، حيث قامت العديد من شركات الموضة، مثل Stella McCartney, Vetements, Greg Lauren, Vivienne Westwood الآن بتحويل الملابس القديمة إلى تصاميم جديدة.



كما اصبح مارك ديفيس، رائداً في إعادة تدوير المجوهرات، مستعيدًا مادة نسيها معظم المصممين الحديثين: الباكيلايت.
بداية الشغف بالباكيلايت
بدأ اهتمام ديفيس بالباكيلايت بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، عندما تراجع سوق المجوهرات الراقية. وتوقفت مبيعات مجوهراته البسيطة من الماس والبلاتين.
اقترح أحد مديري المبيعات لديه إنتاج قطع أكبر بأسعار أقل، ما دفعه للتفكير في إعادة استخدام الباكيلايت القديم، الذي جذب انتباهه أثناء تجواله بأسواق السلع المستعملة في مانهاتن بعد قراءته لمقال قديم في مجلة Taxi في الثمانينات.
يقول ديفيس: “اختبرت ما يقارب ألف نوع مختلف من مادة الإيبوكسي ، إلى أن عثرت على النوع المناسب، وهو في الأصل مخصص لصناعة الطيران. فعندما يتعلق الأمر بالذهب أو البلاتين، يمكن بسهولة العثور على خبراء ومستشارين في التصنيع، لكن الأمر يختلف مع الباكيلايت، إذ إن معظم الحرفيين الذين كانوا يجيدون العمل به قد رحلوا، وأصبح العثور على خبرتهم أمرًا نادرًا وصعبًا”
الباكيلايت: البلاستيك الذي لا يذوب
الباكيلايت، هو أول بلاستيك صناعي من صنع الإنسان، اخترعه العالم البلجيكي-الأمريكي ليو بايكيلاند عام 1907. وهو راتنج حراري مقاوم للحرارة، لا يذوب أبدًا، مما جعله خياراً مثاليًا لصناعة الهواتف، مفاتيح الإضاءة، المقابس.
في البداية، كان الباكيلايت يأتي باللونين الأسود والبني فقط. لكن خلال فترة الكساد الكبير، أصبح يُصنع بألوان متعددة، واستخدمه المصممون في المجوهرات، الراديو، الساعات، وألعاب مثل الدومينو، الطاولة.

يقول ديفيس: “الباكيلايت يتطلب جهدًا كبيرًا في التصنيع، لكنه كان يمكن صنعه بأسعار معقولة في الثلاثينيات عندما كانت اليد العاملة رخيصة. بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح مكلفًا جدًا وصار البلاستيك البترولي الجديد بديلًا له”.
خبرة ديفيس في صناعة المجوهرات
درس ديفيس الفنون الجميلة في مدرسة بارسونز للتصميم ومعهد الموضة في نيويورك، وعمل في دار المزادات Christie’s، حيث تعمق في فهم المجوهرات القديمة وآليات صناعتها. ويقول:
“خلال عملية الفهرسة، كنت أتسلم بروشات مرصعة بالألماس وأقلام شارب، وكان مطلوبًا مني عدّ الأحجار. رغم صعوبة العمل، استطعت فهم بناء المجوهرات والأجزاء التي تظهر عليها علامات الاستخدام”.
بعدها، عمل ديفيس مع تاجر قطع قديمة، مما أعطاه تقديرًا لقيمة التجربة العاطفية لدى العملاء عند شراء المجوهرات.
تحول كامل نحو المجوهرات المستدامة
في عام 2001، حوّل ديفيس مجموعته من مجوهرات الماس والبلاتين البسيطة إلى قطع فائقة الصنعة، مصنوعة من مواد مستدامة ومعاد تدويرها، بما في ذلك الخشب والباكيلايت. وكانت أول مجموعته من أساور الباكيلايت المصقولة مزينة بمجموعة من الأحجار الكريمة والثمينة وشبه الثمينة، وقد لاقت نجاحًا فور إطلاقها وأصبحت عنصرًا أساسيًا في مجموعته.

مع مرور الوقت، تعلم ديفيس وفريقه استخدام المخارط وإتقان فن الماركتري الملون، لابتكار أقراط هندسية، أساور عريضة وخواتم على شكل هرم.
التزام بيئي وإبداعي
لم يكن ديفيس يطمح إلى أن يصبح “محاربًا بيئيًا”، لكن مسيرته تحمل بصمة واضحة في هذا الاتجاه، وهو يشعر بفخر كبير تجاه ما حققه.
ففي ورشته الصغيرة، أعاد الحياة لقطع الباكيلايت القديمة التي كانت مهددة بالاندثار، وحوّلها إلى مجوهرات فريدة، تمتزج فيها الأناقة بالابتكار، وتحمل كل قطعة منها قصة خاصة وروحًا فنية مميزة، لتصبح مثالًا حيًا على الجمع بين الفن، الابتكار والاستدامة.

ويؤكد ديفيس أن ” لا يمكن إعادة تدوير الباكيلايت مثل البلاستيك العادي، لكننا نعيد استخدام كل ما نستطيع ونخلق مجوهرات تعكس الأناقة والمسؤولية. نشتري القطع التي لا يريدها أحد ونحول كل جزء منها إلى قطع جديدة. لا شيء يُهدر”.
وكُلف أحد موظفي ديفيس بمسؤولية تزويد الورشة بالباكيلايت ومواد الراتنج الأخرى، حيث يتم شراء المواد قطعة بقطعة من الأسواق، المبيعات الخاصة، أو الإنترنت.
وهكذا، أصبح ديفيس لا يصنع مجوهرات فحسب، بل يحيي تاريخًا منسيًا ويمنح الباكيلايت حياة جديدة تليق بفرادة ماضيه.